كذبوا فقالوا ستنسى.. فازددتُ شوقاً

مَن مِنا لم يُفارق عزيزاً على روحِه، وفي بلادي ما أكثرَ الفراق، فكم من عزيزٍ علينا غيّبته السجون، وكم من محبٍ طواهُ الثرى، وكم من رفيقٍ باعدتهُ المسافات، وكم وكم.. كبُرنا وهم يكذِبون علينا، مُدّعين بأنَّ الوقتَ أعظمُ دواءٍ لداءِ الفراق، وأنَّ الأيامَ كفيلةٌ بكيّ دائنا، ولكن ما اكتشفناهُ عندَ بلوغِنا أنَّ هذا الدواء كان أكبرَ كذبةٍ تحايلوا بها علينا لنكُفَّ عن بُكائنا، ونداري بها آلامنا. فما زلتُ أذكر جيدا تلكَ اللحظة التي قلبت موازينَ حياتي، لحظةٌ فارقةٌ كلما هممتُ بالبوحِ بها لا يحتملُ القلب إلا أن يئن، وتُسرعُ العينُ مفرغةً دمعها، إنها لحظةُ رحيلِ أحدِ أحبتي إلى الأبد. إنهُ “الموت” إذ لا رجوع، إذ لا لقاء، إذ الشوقُ باقٍ ينقشُ ألمهُ في القلب دون جدوى، حيث الفراق الأبدي، حيث الحنين الدامي، حيث الأنا لستُ أنا والوجود عابر.

نعم كذبوا عليَّ حينها وقالوا سيأتي غدا وتنساهم، وستأخُذُك الأيام بمشاغلها فتنسى مُصابك، فأخذتُ بكذبتهم وتحايلتُ بها على نفسي وعلى مدامِعي علّها تكُفّ، وقلتُ بنفسي نعم سأتجاوز الأمر، ومضت الأيام وفي كل يومٍ أقول غدا سأتجاوزُ مُصابي، وستعودُ الحياةُ كما كانت، ولكن في الحقيقة لم أرَ هذا الغدَ قط، وأدركتُ حينها كذبتهم، فالحقيقة أنَّ غدا قد جاء ولم أزدد سوى شوقا!

فبربك أخبرني آنى للأيامِ أن تُنسينا جمالَ روحِهم في ظلِ غدرِ الأيامِ وقسوتِها؟ كيفَ السبيلُ لنسيانِ مَن كانوا لنا عوناً على مصائبِ هذه الدنيا وأوجاعِها؟ كيف ننساهُم ونتجاوزُهم وهم من كانوا حياتنا بِأكملها؟ كيف ننسى ضحكاتهم ومُزاحهم؟ كيف ننسى حنانهم وجمالَ روحهم؟ كيف ننسى وفاءَهم وثقتهم في زمنِ الخيانة والغدر؟ بصدق ما اكتشفته أنَّ مَن “وَقَرَ حبه في الروح” لا يمكِنُ للقلبِ أبداً أن ينساه، لا الأيامُ قادرةٌ على ذلك ولا الحياة.

من ينسى جمالَ مَن أحب ما هوَ إلا خسيسٌ خائن! فدع عنك كذبهم وأوهامهم، وما ستكتشفهُ مع الوقت أنَّ الأيامَ ما هي إلا سكينٌ يحُزُ جُرحكَ الأبدي فيعود ينزف شوقا من جديد!

فواللهِ إن أحببت بصدق لن تنسى أبدا، ويستحيلُ عليكَ التجاوز، واللهِ ستذكرُهُم عندَ كل لحظةِ حزنٍ تعيشُها، عندَ كل لحظةِ خُذلان، عندَ كل لحظةِ غدرٍ وضيق، حتى في غمرةِ فرَحِكَ ستبكيهم، وستدرك حينها بأنَّ الأيامَ ومشاغلُها وما ادّعوا بأنهُ الدواء ما هو إلا بمثابةِ المسكّن وسرعان ما سيزولُ مفعولهُ عندَ أولِ ساعةٍ من الليل، فتعود النفسُ لتدخلَ في حزنٍ عميقٍ دون أدنى سببٍ ماديٍ يُذكر، ولكن هذا هو الشوق يا عزيزي!

الشوقُ لأشخاصٍ غادروك، لأمكنةٍ غادروها، لأرواحٍ رحلت عنك، لأصواتٍ فقدتها، لعقولٍ تركت عقلك في منتصف الطريق ورحلت، لنفوسٍ جُبلت على الحبِ والإيمان، لزمنٍ كنت تجدُ نفسك به والآن فقدت حتى نفسك. وقبل أن تُهاجم مشاعري “المرهفة” وتحكُمَ عليَّ بالمبالغة اسمح لي أن أسألك، أجرّبتَ شوقَ السابعة صباحا وأنت متجهٌ إلى عملك؟ أجرّبتَ شوقَ العاشرةِ وأنتَ في غمرةِ انشغالك؟ أجرّبتَ شوقَ الثانية ظهرا والشمس تلسعك؟ ذلك الشوق الذي لا مبرر له إلا أنك اشتقت؟ فإن لم تُجرّب ولم تُفارق محبا، فبربِكَ ارحم قلوبا كواها الفراق، وقتلها الشوق، فكُفَّ لِسانَكَ عنا كي لا تُبلى فتندم.

أكادُ أجزِمُ أنَّ مَن ادّعوا بأنَّ الأيامَ ستُنسيك من أحببت ما هم إلا فتيةٌ راهقوا فأضاعوا الحب وظلموه، وجعلوا من الأيام كَذِبَةً تبررُ “خيانتهم”، فمن ينسى جمالَ مَن أحب ما هوَ إلا خسيسٌ خائن! فدع عنك كذبهم وأوهامهم، وما ستكتشفهُ مع الوقت أنَّ الأيامَ ما هي إلا سكينٌ يحُزُ جُرحكَ الأبدي فيعود ينزف شوقا من جديد!

فلذلك إن أحببت بصدق فاعلم أنكَ بُليتَ بداءِ الشوق، وما أعظمهُ وأقساهُ من داء، فاحزِم وثاقَ قلبك، واعتد على البكاءِ أمداً، ولا تركن لكذبةِ النسيان، فكل ما حولك سينطِقُ بذكرياتِ مَن رحلوا، ستُكلِمُكَ الجدران التي حفظت أصواتهم، وستُكلِمُكَ المقاعدُ التي اتكأوا عليها يوماً، وستُبعثِرُ لكَ الأزهارُ عبيرهم ليظلَ طيفُهم حاضراً فيك كلك!

Leave a comment

Website Powered by WordPress.com.

Up ↑